لقد بين الإسلام فضل الصيام وثوابه العظيم، ورفع منزلة الصائم عند الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به " . وقال صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " . على أن هذا الثواب العظيم الذي أعده الله للصائم لا يُنال إلا إذا كان الصيام صحيحاً كاملاً، لا يقتصر على الإمساك عن الطعام والشراب بل تصان فيه الجوارح والأعضاء عن المحرمات، وإلا كان صياماً ناقصاً أو فاسداً، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا التعب "؛ ذلك لأن من مقاصد الصيام تهذيب الإنسان في ميوله وعاداته، ودعوته إلى التخلق بأخلاق القرآن، وتنزيهه عن الخصال الذميمة، وصون المجتمع عن كثير من العلل الخلقية والاجتماعية المتفشية فيه .
وإن من أول ما يجب أن تصان عنه الجوارح في الصيام اللغو والسِّباب والنميمة والكذب والغِيبة وقول الزور . وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . وإذا صمت فليصم سمعك وبصرك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل صومك وفطرك سواء " . ويقول صلى الله عليه وسلم : " إذا أصبح أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ سابَّهُ فليقل: إني صائم إني صائم " .
ولما كانت تلك الأدواء التي أشرنا إليها إنما منشؤها اللسان فإن الإسلام حث على فضيلة الصمت، فبين الرسول أنه لا شيء يُكبُّ الناس في جهنم إلا حصائد ألسنتهم، وكان من قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن : الصمت وحسن الخلق " . وقال صلى الله عليه وسلم : " المسلم من
سلم المسلمون من لسانه " . وقد أظهر الإسلام خطر الكلمة يلقي بها اللسان دون تبصر أو تبين، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيَّنُ فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب " وقال صلى الله عليه وسلم : " ألا إن الكذب يسوِّد الوجه والنميمة من عذاب القبر " .
وإذا كان اللغو والسِّباب والكذب والنميمة وقول الزور من الأمور الظاهرة التي تنبه إليها كثير من الناس؛ فإن الغِيبة داء خفيُّ المداخل كثير المزالق يقع فيه الرجال والنساء والكبير والصغير، ولا يكاد يخلو منه مجلس جِدٍّ أو مِزاح، كل ذلك عن تهاون في خطورته واستخفاف بعقوبته، مع أنه يذهب بثواب الصائم والعابد، ويأتي على الحسنات كما تأتي النار على الهشيم .
وقد بين الله سبحانه وتعالى إثم الغِيبة في صورة رهيبة فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اجتبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسَّسوا ولا يغتَبْ بعضكم بعضاً . أيحب أحدُكم أن يأكل لحم أخيه مَيْتاً فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم الغِيبة بقوله لأصحابه : " أتدرون ما الغِيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " ذِكْرُك أخاك بما يكره . قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ " .
وبيَّنَ الإمام الغزالي حَدَّ الغيبة بقوله : " اعلم أن حّدَّ الغِيبة أن تذكر أخاك بما يكره لو بلغه، سواءٌ ذكرته في بدنه أم نسبه أم في خُلُقه أم في فِعله أم في قوله أم دينه أم في دنياه " .
وقد أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن الغيبة، حتى بلغت أحاديثه فيها نحواً من خمسين حديثاً، ذلك لأن الغِيبة تجعل صاحبها جباناً يطعن الناس في ظهورهم، وكاذباً يفتري عليهم، ومنافقاً خادعاً يتظاهر أمامهم بالأخوة والإخلاص، ثم لا يتورع عن الخوض في أعراضهم في غَيْبَتِهم، فإذا تفشت الغِيبة فـي المجتمــع انعدمت في أهله المروءة والوفاء وفقدت الثقة والإخاء . ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يشدّد في أمر الغيبة، ولا يتهاون في أمرها مع أصحابه وأقرب الناس إليه . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : " قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حُسْبُكَ من صفيّة كذا وكذا – قال بعض الرواة تعني أنها قصيرة – فقال : لقد قلت كلمةً لو مُزجَتْ بماء البحر لَمَزجَتْه " . ولننظر إلى هذه الصورة العملية يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاعة الغيبة: " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الأسلميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراماً . وكل ذلك يُعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث إلى أن قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطَهِرِّني . فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرْجم فرُجِم . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه : انظر هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب . قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائل برجله . فقال : أين فلان وفلان . فقالوا : نحن ذا يا رسول الله . فقال : كلا من جيفة هذا الحمار . فقالوا : يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشدُّ من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة " . وعن أبي أمامة قال صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليؤتى كتابه منشوراً فيقول : يارب فأين حسنات كذا وكذا عملتها ليست في صحيفتي!؟ فيقول : " محيت باغتيابك الناس " .
ليس من إنصاف المسلم لصيامه ولا من إنصافه لنفسه أن يحتمل الجوع والحرمان طوال نهاره راغباً في مرضاة الله وثوابه ثم يَزلُّ لسانه في لَغْو أو سِباب أو كذب أو نميمة أو زور أو غِيبة، فلا يبقى له من الصيام إلا الجوع والتعب . وليس من تقوى الله في شيء أن يمر بالمسلم شهر رمضان، وهو شهر التوبة، فلا يُعِّودُ نفسه تجنَّبَ المحرمات. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا صــام مسلــم لــم يكــذب ولـم يغتب، وفطره طيب – أي حلال – وسعى العَتَمات – أي صلاة الفجر والعشاء – محافظاً على فرائضه خرج من ذنوبه كما تخرج الحية من سَلْخِها " .
بارك الله فيكم على هذه التذكرة في هذا الشهر المبارك الكريم ، ما أحوجنا إليها ، فكثيرا ما ننسى أن الصوم ليس فقط عن الطعام و الشراب و نطلق العنان لألسنتنا تقول ما يحلو لها بدون رادع ، و نفرح بصومنا آخر النهار ، و آخر شهر رمضان معتقدين أن الله قد تقبل منا و غفر لنا ،في حين وحده الله يعلم من منا كان صوم يومه و شهره كما أحبه أن يكون . ندعو الله أن تصوم جوارحنا كلها كما يحب ربنا و يرضى فلا ينقضي الشهر العظيم إلا و نحن من المقبولين و من العتقاء من النار - آمين -
كلي أمل أن يلتقي العاملون في لقاء المؤمنين الصادقين -بعيداً عن حزبية فرقت الأمة!!! وشوهت صورة الإسلام !!! فإلى الإسلام من جديد!!!